الدكتور عاشور فني
الذين جاؤوا إلى عصر الديجيتال عن طريق الفيسبووك والسكايب، لم يعايشوا الخطوات الأولى للإعلام الآلي قبل الإنترنيت، وبالتالي قد لا يقدرون الأشواط الفلكية الكبيرة التي قطعتها البشرية باتجاه المستقبل. كثيرون هم أولئك الذين لا يمثل الحاسوب بالنسبة إليهم سوى آلة كاتبة ذكية، لأنها تتوفر على لعبة مسلية، لعبة الأوراق مثلا، يمكنها أن تلعبها معك. وآخرون لا يرون في البريد الإلكتروني سوى طريقة مبتكرة لإرسال مكتوب لصديق يجلس وحيدا في مكان بعيد. والذين حالفهم الحظ فاكتشفوا الفيسبوك والسكايب، اعتبروا أنهم لقوا أخيرا ما يغنيهم عن الهاتف الثابت والنقال معا. وفي المحصلة، فإن الوسائل الرقمية البديلة هي مجرد بدائل ذات كفاء عالية لأداوت تبدوا كما لو كانت من العصر النحاسي. تلك بدورها فكرة نحاسية في عصر الرقمية.
الدكتور عاشور فني
"لقد تحقق أغلب التقدم الإنساني لأن شخصا ما اخترع اداة أفضل وأعلى كفاءة وفعالية، يقول بيل غيتس. "فالأدوات المادية تسرّع العمل وتنقذ الناس من الجهد البدني الشاق. يضخم المحراث والعجلة والرافعة الميكانيكية والحفارة البلدوزر القدرات البدنية لهؤلاء الناس الذين يستخدمونها. وتمثل الأدوات المعلوماتية وسائط رمزية تضخم ذكاء مستخدميها بدلا من عضلاتهم".
هذه الفقرة مأخوذة حرفيا من كتاب لبيل غيتس، صاحب مايكروسوفت الشهيرة، هو(الطريق نحو المستقبل)،(The road ahead ) نشر سنة 1995، خصصه لمستقبل الإعلام الآلي بعد الإنترنيت. كتب في مقدمته أن مغامرة كبرى بدأت منذ عشرين سنة مع فكرة الحاسوب الشخصي، وأن رحلة كبرى تبدأ الآن مع الإنترنيت، لا أحد يدري أين تصل بنا ولكنها ستغير حياة الملايين من الناس، (وسوف تتمثل التغييرات الرئيسية القادمة في الطريقة التي يتصل فيها الناس بعضهم ببعض وستكون الفوائد والمشكلات المترتبة على هذه الثورة الوشيكة في مجال الاتصالات أكبر كثيرا من تلك التي ترتبت على ثورة الكمبيوتر الشخصي). ثورتان إذن تتراكم آثار إحداهما على آثار الأخرى. هذا في منتصف التسعينات. ألم يحدث شيء منذ ذلك الوقت؟
في الفصل الأول تحت عنوان (ثورة تبدأ) يورد بيل غيتس مقولة (طريق المعلومات فائق السرعة). إنها استعارة أطلقها نائب الرئيس الأميركي الأسبق آل غور الذي كان وراء ربط الولايات المتحدة الأمريكية بشبكة من الحواسيب الآلية سمحت خلال التسعينيات من القرن العشرين، بإعطاء دفعة قوية للنشاط الاجتماعي والاقتصادي والتعليمي والاتصالي أنقذ الولايات المتحدة من الكساد الذي كان متوقعا، على غرار ما فعله السيد غور الآخر، أبو آل غور المذكور، حيث كان في العام 1956 قدم للكونجرس مشروع قانون (الطريق السريع) الذي ربط أنحاء الولايات المتحدة الأمريكية خلال حقبة إيزنهاور. كان إيزنهاور قائدا أعلى لقوات الحلفاء في الحرب العالمية الثانية وحين تولى رئاسة الولايات المتحدة أطلق ثلاثة مشاريع إستراتيجية: مشروع شبكة الطرق السريعة لربط أنحاء الولايات المتحدة الأمريكية بعضها ببعض، مشروع غزو الفضاء، لتكريس التفوق العلمي والتكنولوجي، ومشروع السلاح النووي لقطع الطريق أمام تفوق السوفييت. إنها السياسة بالفعل، أي استمرار الحرب بوسائل أخرى. كانت تسمى الحرب الباردة. هل كانت باردة حقا يا سيد غور؟ كان السيد غور الكبير مسؤولا على شق الطرقات السيارة.
ماذا كان مشروع الرئيس الأمريكي الذي كان آل غور صاحب استعارة طريق المعلومات السريع نائبا له في رئاسة الولايات المتحد الأمريكية؟ كانت نهاية الحرب الباردة ومعها نهاية العالم ثنائي الأقطاب ونشأة وحيد القرن الجديد: كانت "العولمة هي المشروع الجديد". قلت العولمة؟
شركة كوكاكولا التي يقع مقرها في أتلانتا بولاية جورجيا جنوب شرق الولايات المتحدة الأمريكية، قادرة على أن تتحرك في فضاء أزرق شامل يغطي الكرة الأرضية بأكملها. فريق العمل القابع هناك يفكر في إدارة الشركة بشكل إستراتيجي على مستوى الكرة الزرقاء كاملة، لكن بإمكان الفروع التي تقع هناك، يعني في أية نقطة من العالم، يمكنها أن تتحرك وفقا لوضعها المحلي: التفكير كونيا، والتنفيذ محليا (Think globally and act locally).
الفضاء الأزرق هذا يبدو أكثر وضوحا من مقر البنتاجون في أرلنغتون بولاية فيرجينيا: تتحرك قوات المارينز في أية بقعة من العالم تتعرض فيها مصالح الأمن القومي للخطر، حسب إستراتيجية الفريق الساهر في أشهر مبنى خماسي في الأرض أمام خارطة تمتد على طول الجدار الإلكتروني: المشكلة عويصة فعلا. القوات الحليفة في أوروبا لم تعد قادرة على متابعة التطور التقني الذي توصلنا إليه. علينا أن نستعد لما يترتب عن هذه المعضلة ميدانيا. هل في متناول جنرالاتهم متابعتنا في غرفة العمليات المتنقلة في منطقة البلقان على الأقل؟ وماذا لو أمكن إغراء ذلك الأبله بوقف مهزلته الجديرة بالعصر الحجري. هل سيقبل السياسيون الأوروبيون بذلك؟ لا. لنغير صيغة السؤال يا سيد غور. إذا لم يقبلوا بخطتنا، ماذا بإمكانهم أن يفعلوا لعرقلة تقدم قواتنا؟ لا شيء. إذن السؤال لا يطرح أصلا.
حين انتبهت أوروبا على وقع القصف الجوي في منطقة البلقان، كان تفوق الترسانة الأمريكية التي تحققت تحت عنوان هوليودي مضلل (حرب النجوم) قد تجاوز كل التقديرات الاستخباراتية الأوروبية. وجد القادة الأوروبيون جنرالاتهم خارج غرفة العمليات في حرب تجري على أرض أوروبية. من أخرجهم؟ الحليف الإستراتيجي نفسه في كل الحروب العالمية: القوات الأمريكية. هل من سبب وجيه لهذا الوضع يا حضرة الجنرال ؟ نعم إنهم داخل الشبكة. نحن نقع خارج الشبكة. إذن؟ علينا أن نبدأ من جديد. لا يتعلق الأمر ببناء المصانع أو بتجهيز الأساطيل، وإنما يتعلق الأمر بشيء أخطر. نمط التفكير. سمح عصر الديجيتال بالانتقال من نمط التفكير الخطي الذي طبع العقل البشري منذ اعتماد بديهيات التفكير المنطقي الأساسية، إلى نمط من التفكير جديد يمكن تسميته بالمنطق الشبكي.
جنرال؛ هل يمكن إلقاء القبض على ذلك الدجال الذي خلط أوراق الجنرالات ورجال البترول وتصدر قائمة الأثرياء في العالم من 1996 حتى سنة 2007، وفي سنة 2009 أيضا؟ ألم يتقاعد بعد؟
بلى. قبل ذلك ألف كتابا أعلن في مقدمته أن هدفه يتمثل في أن يقدم كتابا يفهمه أكبر عدد ممكن من الناس. هو إذن أصلح من يشرح فكرة الديجيتال.
هل يمكنك يا سيد غيتس أن تشرح المنطق الديجيتال؟
تخيل أن لديك غرفة تريد أن تضاء بقوة 250 واط من الضوء الكهربائي. وتريد أن تتحكم في درجة الإضاءة. ستثبت مفتاحا بالمصباح يمكنك من أن تزيد أو تنقص درجة الإضاءة. فإذا أردت ضبط النور على درجة خافتة من أجل عشاء خصوصي، ستحرك الزر في اتجاه مضاد لعقار الساعة، فتحصل على الإضاءة المطلوبة. تخيل أنك أردت مرة أخرى آن تحصل على نفس الدرجة من الإضاءة لعشاء مماثل. لك أو لصديقك. ستقول له: أدر الزر حتى يصبح في مستوى الساعة الثانية. ستكون درجة الإضاءة قريبة ولكنها ليست دقيقة. ماذا لو نقلت المعلومة إلى صديق ثالث. ورابع؟ ستتغير الإضاءة تماما. ذلك هو مثل المعلومات المخزنة في شكل تناظري. فلننتقل إلى الشكل الرقمي.
بدلا من مصباح واحد بقوة 250 واط نضع ثمانية مصابيح، كل واحد منها يتوفر على ضعف قوة المصباح السابق. من 1 واط إلى 128 واط هكذا:
1-2-4-8-16-32-64-128 واط.
توفر إضاءة كل المصابيح درجة 255 واط . وتتوفر لدينا 256 إمكانية لضبط النور. من أجل الحصول على درجة إضاءة تريدها يتعين عليك إضاءة المصابيح الموافقة. مثلا للحصول على درجة إضاء 137 واط من الضوء تشغل المفتاح 128 واط ومفتاح 8 واط ومفتاح 1واط. يمكنك بسهولة تسجيل هذه المعلومات بشكل رقمي: المفتاح المشغل1 والمطفأ0. ترتب المفاتيح من الأصغر إلى الأكبر من اليمين إلى اليسار على نطاق كوني. لا فرق بين أمريكي وصيني. يمكن الحصول على الرمز التالي 10001001 ذلك هو الرمز الثنائي. هذا الرمز الثنائي يتيح الاستفادة من الدوائر الكهربائية لبناء الحاسبات الإلكترونية. حدث ذلك خلال الحرب العالمية الثانية عندما...
ما علاقتك بالحرب ياسيد غيتس. ما لهذا طلبناك. لم أفهم شيئا على كل حال. مساعدي الجنرال يكون قد سجل كل شيء في مفكرته لوقت الحاجة. والآن هل يمكن أن تشرح طريق المعلومات السيارة الذي تتحدث عنه الصحف في كل مكان؟
نعم. توحي فكرة الطريق السيارة للمعلومات بأن كل لأشخاص سيسلكون المسار نفسه، عبر طريق فسيح في حين أن الشبكة هي أشبه ما يكون بمجموعة كبيرة من مجازات الريف، أو مسالك الجبال حيث يمكن لكل فرد أن يسلك الطريق الذي يناسب وجهته، ويهتم بالشؤون التي توافق انشغالاته الشخصية. الشبكة لا تعني أن جميع الناس يسيرون في اتجاه واحد. بل يتجه كل واحد الوجهة التي يريدها. ستخلق الشبكة وسائلها الخاصة ومنطقها وأخلاقها.
قبل بداية استعمال الهاتف كانت المحادثة الوافية تستلزم زيارة للشخص الذي نريد الاتصال به، وقد يتطلب الأمر قضاء فترة العصر كاملة في بيته، وقد يتطلب الأمر تناول العشاء معه، لتكتمل المحادثة. لم يكن يدور بخلد غراهام بيل أن يسيء إلى تلك التقاليد الاجتماعية الرفيعة وهو يضع اكتشافه موضع التنفيذ. على أن التلفون أداة اتصال خطية تماما. كل ما أتاحته هو أن يجري الاتصال في الاتجاهين. أما الشبكة فهي بمثابة تدمير تام لقاعدة الاتصال الخطي: الفرد باعتباره قطب الاتصال. الشبكة مسارات متشابكة وليست مجموع أفراد متحايثين. الفرد سابق على العلاقة. أما الشبكة فتنشأ من العلاقات المتبادلة بين أفراد الشبكة. أفرادا طبيعيين كانوا أم منظمات اجتماعية أم عسكرية أم حاسبات آلية. لا وجود للفرد خارج الشبكة. ما يربط العناصر المكونة للشبكة هي التفاعلات الاجتماعية بينها. تلك التفاعلات هي علة وجود أعضاء الشبكة. ما محتوى تلك التفاعلات؟ تبادل المعلومات في كل الاتجاهات. يمكن لكل فرد في الشبكة أن يستقبل المعلومات كما يمكن أن يكون مصدرا للمعلومات. ذلك هو عصر المعلومات. عصر الرقمية. من لم يدخل في التفاعلات الشبكية ليس له وجود. هو خارج العصر.
هل يمكن أن نتحدث بصراحة؟ الشبكة ليست جديدة. هناك شبكات معروفة جدا. شبكة الصرف الصحي وشبكة الحواسب دخل مؤسسة البريد. ليست الشبكة هي المشكلة. المشكلة في المنطق الذي يديرها. قد تدار شبكة الخدمات المعلن عنها للمواطنين بمنطق الآلة النحاسية. تصبح الشبكة عبئا على أعضائها. مصدر قلق وضياع للوقت. يقف الكثير من الناس في الطابور أمام شباك عاملة الحسابات واجمين: في نظراتهم سؤال مكتوم: ما الأمر يا آنسة؟ يجيء صوت العاملة زاجرا حادا متحديا: الله غالب، من عندهم... الله غالب. ما زلنا خارج الشبكة. خارج العصر إذن.
شبكة إنترنيت هي شبكة الشبكات، حين تدخلها فأنت ارتقيت إلى المستوى الكائن الكوني. هل أنت أهل لذلك؟ لن يراقبك أحد. أنت الرقيب الوحيد على ما تفعل. هل تملك الأخلاق المناسبة لذلك؟ هل تشعر بالانتماء إلى مجموعة كونية؟ أنت إذن تنتمي إلى المستقبل. لا يوجد طريق واحد نحو المستقبل، بل شبكة.
